المادة    
لا بد أنكم تساءلتم: ما ارتباط الدعوة بخروج المرأة، وتمردها على ربها وعلى سنة نبيها، وشريعة دينها، وأولياء أمورها، بالصليبية الغربية، ارتباط ذلك بالحملات الصليبية التي تفد على هذه البلاد الإسلامية كل حين، وما من صفحة من صفحات تاريخنا -واقرأوه- إلا ولنا مع الغرب والصليبيين معركة، ومع كل حملة تفد، تفد معها الدياثة، والتمرد، والانحلال، والخروج، ولأولئك دور وضلع لا يمكن إنكاره في هذا الخروج وفي هذا التغرب.
  1. الحملات الصليبية الأولى القديمة

    إنّ الحملات الصليبية الأولى القديمة التي قدمت منذ ألف سنة، قام بها وحوش همج أوروبيون، لا يعرفون حضارة، ولا مدنية، وسخر منهم المسلمون ومن دياثتهم، ومن انحطاط خلقهم، ومن سفالتهم، بما لم يدع مجالاً لأن يُقتدى بهم.
  2. المرحلة الأولى : الحملة الصليبية الحديثة على مصر

    لنتجاوز ذلك إلى العصر الحديث -كما يسمى- فأول حملة صليبية قامت في العصر الحديث هي حملة نابليون بونابرت على مصر في مطلع القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر ميلادي، فعندما قدمت هذه الحملة، واعتبرها البعض بداية لـحركة تحرير المرأة، ومنهم المرأة المشهورة في الحركة درية شفيق، نظيرة وزميلة هدى شعراوي المشهورة والمعروفة، اعتبرت هذه الحملة بداية لدعوى تحرير المرأة-كما يسمونها- كيف كان ذلك؟
    عندما جاء الفرنسيون بعد قيام الثورة الفرنسية التي قامت عام (1789م)، ورفعت شعار المساواة، والحرية، والإخاء -الشعارات الماسونية الكاذبة- وجاءوا بنسائهم متبرجات متهتكات.
    وقد وصف المؤرخ السني الجبرتي رحمه الله صاحب التاريخ المشهور عجائب الآثار في التراجم والأخبار، قدوم الحملة وآثارها وكيف تأثرت بها المصريات، وكيف قلدن الفرنجيات في عاداتهن، وكيف أن الأمر تعدى مجرد اللباس إلى صحبتهن في الزوارق على النيل، والرقص معهن والتهتك والتخلع بخلاعتهن، فاعتبرت هذه هي البداية، وفعلاً قد كانت هي البداية.
    ومن العجيب أن نابليون عندما قدم إلى مصر، وادعى أنه حامي الإسلام، وأنه ما جاء إلا لتأييد الإسلام، بل سمى نفسه محمد نابليون ضحكاً على المسلمين، وسخرية، واستهزاءً بهم، وطالب بالحرية الاجتماعية على نمط الثورة الفرنسية، وقال: ''إن مصر مجتمع متأخر منحط... وقال: لا بد من إنشاء حكم يقوم على الطريقة الغربية'' مع أن الغرب في ذلك الزمان لم تكن الديمقراطية قد تبلورت عندهم، فكانت الثورة حديثة عهد في فرنسا نفسها.
    فأنشأ نابليون ديواناً للشورى، وقال: يشترك فيه جميع المسلمين، وانطلاقاً منه بدأت قضية المرأة، ولم لا تشترك المرأة، ولم لا يكون لها دور في هذا المجتمع؟
    ولا سيما وقد قال نابليون: ''لا بد أن يكون هذا الديوان ممثلاً لجميع فئات المجتمع'' فدخل النصارى -وقد كان النصارى وما يزالون دائماً عملاء للصليبيين الوافدين- ودخلت معهم أيضاً الطوائف الأخرى.
    فإذاً كانت القضية حملة صليبية، صحبها تهتك، ودعارة، وخلاعة في النساء، ومطالبة بحكم شوروي نيابي؛ فانفتقت الأذهان عن هذه الفكرة الخبيثة، أو هكذا -على الأقل- فهم دعاة إفساد المرأة الذين جاءوا فيما بعد في المرحلة الثانية.
  3. المرحلة الثانية: حملة صليبية أخرى

    في هذه المرحلة تجلت بوضوح قضية إفساد المرأة مع ظهور حملة صليبية أخرى في عهد إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا المشهور، كان إسماعيل باشا حاكماً على مصر في أواخر القرن الماضي الميلادي، وقد تلقى تعليمه في باريس، ثم لما تولى حكم مصر، شُقت قناة السويس؛ فكان الاحتفال التاريخي -كما يسمى- حضرته الامبراطورة يوجيني، وحضره امبراطور النمسا، وحضره كثير من زعماء أوروبا المتهتكين المتخلعين، وكان الرجل قد تربى تربية غربية؛ فقام بتطبيق الحياة الغربية بحذافيرها في مصر، أو شرع في ذلك؛ فهو أول من أدخل نظام الجمارك -مثلا- وهو الذي أدخل ديواناً أو مجلساً كما أسماه الشورى بظنه، وأنشأ جمعية عمومية، وعاش في الترف والبذخ، حتى ورط مصر في ديون بلغت مائة مليون جنية، وهي من الناحية المعنوية تعادل اليوم مائة مليار جنية.
    وفي عهد إسماعيل باشا افتتحت لأول مرة في العالم الإسلامي مدارس للبنات، على نمط مدارس البنين وعلى الطريقة الغربية، تحتوي على سنوات معينة ومنهج كمنهج البنين، ثم مراحل بعضها يتلو بعضاً، كانت هذه هي المرة الأولى، ونتيجة للسيطرة الإنجليزية والفرنسية التي جاءت بسبب هذه الديون بدأت في عهده دعوة الانحلال، والفسق، والفجور، وكان رئيس وزرائه نوبار باشا الأرمني، وكان في حكومته وزيران: أحدهما فرنسي والآخر انجليزي، وفي ظل حكم هذا الرجل قامت ونمت وترعرعت الدعوة إلى الإباحية وإفساد المرأة.
    حتى أن الإنجليز عندما جاءوا وأجهضوا ثورة أحمد عرابي وقضوا عليها، كان ممن أيد الإنجليز ودلهم وشجعهم على دخول القاهرة وحثهم على ذلك، وقاوم الشعب وقال لهم: لا تقاوموا الإنجليز، وهؤلاء إنما جاءوا لمصلحتنا، وما قدموا إلا لخير البلاد، ولدفع الظلم، ورفعه عنها، ولكي تكون حكومة شوروية انتخابية كان من جملتهم المدعو محمد سلطان باشا، وهو والد هدى شعراوي التي قد يأتي الحديث عنها -إن شاء الله- فالقضية ضالعة عميقة الجذور في العمالة أيضاً.
    المهم أنه لأول مرة في الشرق عرف ما يسمى "البرلمان" في أيام إسماعيل باشا عام (1866م)، ثم خلفه الخديوي توفيق، ولأول مرة -أيضاً- في الشرق يعلن ما يسمى الدستور، فأعلن الدستور في عام (1882م)، وفي كل مرة يراد أن توجد حياة نيابية، أو دستورية، أو شورية -إن استخدم المصطلح الإسلامي- تظهر قضية المرأة لأن الأعداء المتربصين يريدون أن يفيدوا من هذا الوضع، فيقولوا: نصف المجتمع لا بد أن يظهر، وأن يمّثل، وأن يكون له دورٌ ووجود، وفي هذه الأثناء وبعدها ظهرت الحركة، وظهر جمال الدين الأفغاني الذي تتلمذ عليه محمد عبده، والشيخ محمد عبده -كما ثبت- هو الذي وضع أكثر كتاب قاسم أمين تحرير المرأة وظهرت دعوة قاسم أمين -المتوفى عام (1908م)- وانتشرت الحركة وكان اللورد كرومر المندوب البريطاني يرعاه.
  4. الحرب العالمية الأولى

    بعد الحملة السابقة جاءت الحركة الأخرى التي كثيراً ما تنسى أو لا تذكر على أنها حملة صليبية، وهي الحرب العالمية الأولى، ونجد أن التمثيلية نفسها تتكرر، قامت الحرب العالمية الأولى عندما اتفق الإنجليز والفرنسيون على تقسيم العالم الإسلامي، وإخضاعه لسيطرتهم، وبدءوا يشيرون العرب ليثوروا معهم على الترك، فأعلن الإنجليز أنه لا بد أن يكون للعرب حكم مستقل.
    ومن المكاتبات المشهورة التي كتبها السير هنري مكمهون إلى الشريف حسين يقول: "من السير هنري مكمهون مندوب الدولة البريطانية العلية، إلى الشريف حسين سليل الأسرة الطاهرة العترة الشريفة وكذا... ويفيض عليه من المدح وأنك حفيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف يصبح الحكم في أيدي الترك؟!
    وكيف يكون الأتراك هم الخلفاء والعرب موجودون، والسلالة الشريفة الطاهرة على قيد الحياة ويتولى الأتراك الحكم، والدولة العلية البريطانية تريد الخير والسلام، وعودة الأمور إلى شرعيتها، وتريد أن تنصبكم خليفة على العرب، وزعيماً لهما بشرط أن تقوموا معها، وتثوروا وتخرجوا على الترك، وقد عزمت على إقامة العدل والقضاء على الاستبداد التركي.. إلى آخر ذلك الكلام.
    أما لورنس -المعروف بـلورنس العرب الخبيث والمشهور- فقد خرج وخرج معه العرب المغفلون المخدوعون لمحاربة الترك والاستبداد التركي، يقول لورنس: ''كنت أشعر بتأنيب الضمير، وأنا أرى هؤلاء الناس يخرجون معي، ويقاتلون بني دينهم -يعني الأتراك- أملاً وطمعاً في أحلام ووعود وعدناهم بها ولم تتحقق'' لقد كان الضمير يؤنبه، لأنهم ضحكوا على هؤلاء المساكين، فلا شرعية، ولا استقلال، ولا عدل، ولا حق، وإنما هي أطماع صليبية سُخِّرت لهذا الهدف.
    ودخل اللنبي القائد الإنجليزي القدس وجيشه من الإنجليز والعرب -وفتحوا القدس- فلما وقف على جبل الزيتون، غرس رمحه بقوة وقال: ''الآن انتهت الحروب الصليبية''.
    وأما الجنرال الفرنسي غورو فإنه تقدم ومعه أيضاً العرب في جيشه إلى دمشق، وقال العرب: لنا حكم بلاد الشام ويكون الشريف هو الخليفة وأبناؤه هم الحكام على هذه المناطق، هذا من عدالة الغربيين، ومن حسن أخلاقهم ومن حرصهم على الشرعية.
    لما دخل غورو إلى دمشق قال: دلوني على قبر صلاح الدين، فدلوه عليه فأخذ يركله بقدمه، ويقول: قم يا صلاح الدين ها قد عدنا، وها قد انتصرنا، يا ثارات ريتشارد، يا ثارات بوهمند، يا ثارات فلان وفلان من قادة الحروب الصليبية الذين قتلوا أو أسروا في أيام صلاح الدين، وإذا بها حملة صليبية مكشوفة، وإذا بالعرب يخدعون وإذا بالوعود كلها تذهب هباءً.
    المقصود ليس هذا -فكلكم تعرفونه- لكن انبثقت من خلال هذا: الحركة النسائية أيضاً، فلما انتهت الحرب العالمية الأولى عام (1918م) وإذا بـسعد زغلول ومن معه وهدى شعراوي، يخرجون في العام التالي (1919م) يطالبون بالحرية والاستقلال وقالوا: لا بد أن يكون للمرأة دور، رتب سعد زغلول مع هدى شعراوي -وكانت رئيسة اللجنة المركزية لـحزب الوفد للسيدات- ومن معها المظاهرة، فخرجت مظاهرة ضد الإنجليز، وخرجت المتظاهرات ونزعن الحجاب.
    سبحان الله! يتظاهرن ضد العدو وينزعن الحجاب، ما هي القضية؟
    وما العلاقة بين نزع الحجاب وبين المطالبة بإخراج المحتل؟!
    لكنها لعبة مدبرة، مزقن الحجاب وأخذن يطالبن بالحرية والاستقلال!!
    الحرية مِن مَن.. من الإنجليز أم من الحجاب الذي مزقنه ونزعنه؟!
    وجاء الإنجليز بتمثيلية من هنا ومن هناك فأطلقوا الرصاص، وقيل: هؤلاء البطلات الثائرات الرائدات الزعيمات، وإذا بالشعب والصحافة من كل مكان والأحزاب يقولون : المرأة تبذل نفسها من أجل الوطن، فماذا قدم لها الوطن! وإذا بالدعاة -دعاة الإفساد- يقولون: ها هي ذي المرأة تتطوع وتخرج وتقاتل وتواجه المستعمر، فماذا نقدم لها، أتظل حبيسة البيت وقد أثبتت وجودها ووطنيتها.
    لقد صور الشاعر حافظ إبراهيم خروج المظاهرة وكيف استقبلها الإنجليز، ثم ردت على أعقابها، وسخر من هؤلاء الهزيلات والضعيفات ذات الجنس الرقيق والناعم، حتى هو رغم هذا الموقف شارك غيره من الشعراء والكُتَّاب في الحملة والدعوة إلى مشاركة المرأة في الدفاع عن البلاد، وعن الاستقلال، ومن ذلك القصيدة المشهورة التي كانت في مناهجنا التعليمية وقرأناها وحفظناها، وهي بعنوان: فتاة اليابان، لقد كان حافظ إبراهيم يمجد فتاة اليابان التي اشتركت وتطوعت في الحرب ضد أعداء اليابان في الحرب العالمية والتي قال فيها:
    لا تلم سيفي السيف نبا             صح مني العزم والدهر أبى
    أنا يا دنية لا أنثني             عن مرادي أو أذوق العقبا
    هكذا الموساد قد علمنا             أن نرى الأوطان أماً وأبا
    فيقول: لا بد أن تخرج وأن تتطوع المرأة، وبالفعل تطوعت المرأة وخرجت في الدفاع عن الوطن، ويا سبحان الله! تبذل نفسها وتقابل الرصاص وتتطوع من أجل الوطن، ثم لا تمنح حرية الحياة ونزع الحجاب وأن تكون كالمرأة الغربية تتحضر وتترقى، وتفوز بالبرلمان، وتدخل المجالس النيابية وتعطى الوظائف، فهي تقدم دائماً والرجل ظالم لها لا يعطيها أي شيء، هكذا قيل وهكذا كانت تلك المأساة.